فصل: السادس: في الجرح، والتعديل، والعدالة، وتعرف أحوال الشهود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الذخيرة في فروع المالكية ***


السادس‏:‏ في الجرح، والتعديل، والعدالة، وتعرف أحوال الشهود

العدالة – عندنا حق لله تعالى على الحاكم، لا يجوز له أن يحكم بغير عدل وإن لم يطالبه الخصم بالعدالة، وبه قال ‏(‏ش‏)‏ وابن حنبل، وقال ‏(‏ح‏)‏‏:‏ العدالة حق للخصم، فإذا علم أنهما مسلمان ظاهران حكم بهما، ولا يحتاج للبحث عن عدالتهما إلا أن يجرحهما الخصم فيما سوى الحدود والقصاص، لنا‏:‏ إجماع الصحابة - رضي الله عنهم-، ‏(‏لأن رجلين شهدا عند عمر - رضي الله عنه - فقال‏:‏ لا أعرفكما، ولا يضركما أن لا أعرفكما، جياَني بمن يعرفكما، فجاَآه برجل، فقال له‏:‏ أتعرفهما‏؟‏ قال‏:‏ لا، فأنت جارهما تعرف صباحهما ومساءهما‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ أعاملتهما بالدراهم والدنانير التي تقطع بها الأرحام‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ يا بن أخي، ما تعرفهما، جياَني بمن يعرفكما‏)‏ وهذا بحضرة الصحابة - رضي الله عنهم- لأنه لم يكن يحكم إلا بمحضرهم، ولم يخالفه أحد فكان إجماعاُ، والظاهر‏:‏ أنه ما‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌ سأل عن تلك الأسباب من السفر وغيره إلا وقد عرف إسلامهما، لأنه لم يقل‏:‏ أتعرفهما مسلمين ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ وأن ذلك ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ تعجل الحكم واجب عند وجود الحجة، لأن أحد الخصمين علي سفر ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ على الفور، والواجب لا

يؤخر إلا للواجب، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وأشهدوا ذوي عدل منكم‏)‏ ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ لا يستشهد، وقوله‏:‏ ‏(‏منكم‏)‏ إشارة للمسلمين فلو كان الإسلام ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ مأخوذ من الاعتدال في الأقوال والأفعال والاعتقاد فهو وصف ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ الإسلام، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ممن ترضون من الشهداء‏)‏ ورضا الحاكم بهم فرع معرفتهم، وبالقياس على ما إذا سأله الخصم العدالة وطعن فيهم، بجامع عدم ظهور أحوالهما، وبالقياس على الحدود، وقولهم الحدود حق الله، والحاكم نائبه، فطلب العدالة، وفي حقوق الآدمي هي حقه فلم يتعين الحاكم، ممنوع إن العدالة حق آدمي أصلا، وكما لو قال له‏:‏ أحكم لي بقول كافرين فإنه حق لي، أو بقول امرأة‏.‏ احتجوا بقوله تعالى ‏(‏واستشهدوا شهيدين من رجالكم‏)‏ ولم تشترط العدالة، وبقول عمر - رضي الله عنه -‏:‏ المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا محدودا في حد ‏(‏وقبل رسول الله صلى الله علية وسلم شهادة الأعرابي بعد أن قال له‏:‏ أتشهد أن لا إله إلا الله، وأني محمد رسول الله‏)‏ فلم يعتبر غير الإسلام، ولأنه لو أسلم كافر بحضرتنا جاز قبول قوله مع أنه لم يتحقق منه إلا الإسلام، ولأن البحث لا يؤدي إلى لحوق العدالة، وإذا كان المقصود الظاهر فالإسلام كاف في ذلك، لأنه أتم وأرجح، ولأن صرف الصدقة بحوزها على ظاهر من غير

بحث، وعمومات النصوص والأوامر تحمل على ظواهرها من غير بحث، فكذلك هاهنا، ويتوضأ بالمياه ويصلي بالثياب بناء على الظاهر من غير بحث‏.‏

والجــواب عن الأول‏:‏ أنه مطلق فيقدم عليه النص المقيد، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ذوي عدل منكم‏)‏ فقيل بالعدالة، وقيل أيضا برضا الحكام والمسلمين، وهو مشروط بالبحث ولأن الإسلام لا يكفي فيه ظاهر الدار، فكذلك لا نكتفي بالإسلام في العدالة‏.‏

وعن الثانــي‏:‏ أنه يدل على اعتبار وصف العدالة، لقوله‏:‏ عدول، فلو لم يكن معتبرا لسكت عنه، وهو معارض بقوله‏:‏ لا يؤسر مسلم بغير العدول، ولأن ذلك كان في صدر الإسلام حيث العدالة غالبة، بخلاف غيرة‏.‏

وعن الثالــث‏:‏ أن السؤال عن الإسلام لا يدل على عدم سؤاله عن غيره فلعله سأل، أو كان غير هذا الوصف معلوما عنده‏.‏

وعن الرابــع‏:‏ أن لا تقبل شهادته حتى تعلم سجاياه وجرأته على الكذب، وإن قبلناه فذلك لتيقننا عدم ملابسته لما ينافي العدالة بعد إسلامه‏.‏

وعن الخامــس‏:‏ أنه باطل بالإسلام، فإن البحث عنه لا يؤدي إلى يقين، ويحكم الحاكم في القضية التي لا تنص فيها ولا إجماع، فإن بحثه لا يؤدي إلى يقين، وأما الفقير فلابد من البحث عنه، ولأن الأصل هو الفقر بخلاف العالة، بل من أنه هاهنا أن تعلم عدالته في الأصل، فإنه لا يبحث عن مذيلها، وكذلك أصل الماء الطهارة، ولا يخرج عن ذلك إلا بتغير لونه أو طعمه أو ريحه، وذلك معلوم بالقطع فلا حاجة إلى البحث، ولأن لأصل الطهارة بخلاف العدالة ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ والأوامر ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ فإنا لا نكتفي بظاهرها بل لا بد من البحث عن الصارف والمخصص‏.‏

و‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ الأعدل ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ على ظاهرها‏.‏

وفي التفريع‏:‏ ثلاث وعشرون مسألة‏.‏

المسألة الأولــى‏:‏ عدم قبول ظاهر عدالتهم حتى يسأل عنهم في السر‏.‏ ويكتفى بتزكية السر والعلانية ولا تقبل التزكية إلا من مقبول الشهادة، ويزكى الشاهد وهو غائب؛ لأن المقصود الإطلاع على حاله ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ من الناس من لا يسأل عنه لشهرة عدالته عند القاضي والناس، قال صاحب المقدمات‏:‏ يشترط في قبول الشهادة خمسة أوصاف‏:‏ البلوغ، الوازع، التكليف، والعقل؛ لأن عدمه ينافي التكليف، والحرية؛ لأن شرف الرتبة تمنع أن يخل فيه ناقص بالعبودية، والإسلام لأن نقصه بالكفر يشر، والعدالة وهي أن يكون الشاهد يجتنب الكبائر ويتوقَّى الصغائر، قال‏:‏ ومن شرطه أيضا اليقظة والتحرز؛ لأن المغفل لا يؤمن عليه التحيل من أهل التحيل، واختلف في اشتراطه عدم الحجر‏:‏ فعن مالك‏:‏ عدم الاشتراط؛ لأن السفه استهزاء بالمال، والشهادة معتمدها‏:‏ ضبط الدين فلا ينافي، واشترطه أشهب؛ لأن السفه إضاعة المال، وهي حرام، فهو يخل بدينه، وبالغ أشهب فقال‏:‏ ولو كان لو طلب ماله أعطيه، ومنع محمد شهادة البكر حتى تعنس‏.‏ وفي الجواهر‏:‏ الذي تقبل شهادته‏:‏ المجتنب للكبائر، المتقي للصغائر، ذو مروءة وتمييز، مستيقظ متوسط الحال بين البغض والمحبة، والاعتدال في الأحوال الدينية هو العدالة، بأن يكون ظاهر الأمانة، بعيدا من الريب، مأمونا في الرضا والغضب، قال‏:‏ قال بعض علمائنا‏:‏ وليست العدالة أن يمحض الطاعة حتى لا تشوبها معصية لتعذُّره، لكن مَن كانت الطاعة أكثر حاله وهو مجتنب الكبائر، يحافظ على ترك الصغائر، يستعمل المروءة التي تليق بمثله في دينه ودنياه، فكل من صدر منه تَعَدٍّ أَدَّى لسقوط الدين والمروءة فهو قادح في شهادته، قال القاضي أبو بكر‏:‏ ضابط المروءة‏:‏ أن لا يأتي بما يعتذر منه مما لا ينحيه عن مرتبته عند أهل الفضل، قال ابن محرز‏:‏ وليس المرادُ بالمروءة نظافةَ الثوبِ، وفراهة المركوب‏.‏ وجودة الآلة والشارة، ولكن التصون والسمْت الحسن وحفظ اللسان، وتجنب السخف والْمُجون، والارتفاع عن كل خُلق رديء يري أنَّ من تخلَّق به لا يحافظ معه على دينه، وإن لم يكن في نفسه جرحة، ورأى بعض الناس أن شهادة البخيل لا تُقبل؛ لأن احتياط البخل يؤديه إلى منع الحقوق، وأخذ ما ليس بحق، ولا تُرد شهادة أرباب الحِرَفِ الدَّنيِّة، كالكنَّاس‏.‏ والدبَّاغ، والحجَّام، والحائِك، إلاَّ أن يكون يفعَل ذلك اختيارًا ممن لا يليق به، فإنه يدل على خبل في العقل، وقلة المروءة، قال القاضي أبو الوليد‏:‏ ويشترط فيمن اجتمع فيه هذان الوصفان‏:‏ العلم بتحمل الشهَادة، إذ لا يُؤمن الغلطُ على الجاهل بشرط ذلك، والتحري ليُؤمن عليه التحيل من أهل التحيل، فإن الفاضل الخيِّر الضعيف لا يُؤمن عليه التلبسُ فلا تُقبل شهادته للإمام خوفًا من ذلك، قال صاحب المقدمات‏:‏ أجاز ابنُ حبيب شهادة المجهول على الموسم فيما يقع بين المسافرين في السفر، قياسًا على الصبيان في الجراح، وقيل‏:‏ تجوز في اليسير استحسانًا‏.‏

تنبيه‏:‏ قال صاحب المقدمات‏:‏ مراتب الشهود‏:‏ إحدى عشرة كل مرتبة لها حكم يخصها‏:‏ الشاهد المبرز في العدالة، القائم بما تصح به الشهادة، يقبل في كل شيء ويزكي ويجرح إن سئل عن كيفية ذلك إذا أبهم، ولا يقبل فيه التجريح إلا بالعداوة وقيل‏:‏ ولا بالعداوة لتمكن ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏وكذلك غير العالم بما تصح الشهادة، غير أنه يُسأل عن كيفية علمه بما شهد به إذا ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ وغير المبرز المعروف العدالة، العالم بما تصح فيه الشهادة، لا تجوز إلا في ستة مواضع على اختلاف التزكية، ولأخيه ولمولاه ولصديقه الملاطف وشريكه في غير التجارة، وإذا زاد في شهادته أو نقص، ويقبل فيه الجرح بالعداوة وغيرها، ولا يُسأل عن كيفية علمه إذا أَبْهم، وكذلك المعروف بالعدالة غير العالم بما تصح فيه الشهادة، إلا أنه يُسأل عن كيفية علمه إذا أَبْهم، والشاهد المعروف بالعدالة إذا قَذَفَ قبل أن يُحَد مَنَع مَالكٌ و‏(‏ش‏)‏ شهـادتَه لتحقق الجريمة، وأجاز ابنُ القاسم - وهو مشهور - لاحتمال بطلان الجريمة قبل الْحُد‏.‏ ومن تتوسم فيه العدالة تجوز بغير تزكية فيما يقع بين المسافرين في السفر من المعاملات فقط عن ابن حبيب، ومن لا تتوسم فيه العدالة ولا الجرحة فلا بد من تزكيته، وشهادة شبهة عند بعض العلماء في بعض المواضع، فتوجب اليمين والقسامة والحميل وتوقيف المدعي به، ومن تتوسم فيه الجرحة، فلا بد من تزكيته، وليست شهادته شبهة توجب حكمًا، ومن ثبتت جرحته قديمة أو يعلمها الحاكم به، لا يقبل إلا بتزكيته ممن علم جرحته تلك؛ لأن الجاهل بها قد يزكيه معها فيشهد على توبة وصلاح حاله منها، وكذلك المحدود في القذف عند مالك، ومن هو مقيم على الجـرحة مشهور بها، لا تُقبل تزكيته في تلك الحال حتى يتوب وتحسن حاله؛ لأن تزكيته حينئذ كذب، وشاهد الزور لا يُقبل أبدًا وإنْ تاب وحسنت حالُه، وعن ابن القاسم‏:‏ الجواز إذا عرفت توبته بتمكن حـاله في الصـلاح، قال ابن القاسم‏:‏ ولا أعلمه إلا قول مالك، فقيل‏:‏ اختلاف، وقيل‏:‏ معنى الثاني‏:‏ إذا جاء تائباَ مقرًّا على نفسه بشهادة الزور قبل أن يظهر عليه، قال وهو الأظهر‏.‏

نظــائر‏:‏ قال ابن بشير في نظـائره‏:‏ ستة لا يقبل فيها إلا العدل المبرز‏:‏ التعديل، والشهادة للأخ وللمـولى وللصديق الملاطف، والتزكية في غير الزيادة، وإذا زاد في شهادته أو نقص‏.‏

فــائدة‏:‏ في التنبيهات‏:‏ المبرِّز بِكسر الراء المهملة مأخوذ من السابق في حَلَبة خَيل السبَاق، أي برَّزَ وسبق أمثاله في العدالة‏.‏

فـرع

قال ابن يونس‏:‏ إن ارتضى القاضي رجلاً للكشف قَبِل منه ينقل إليه عن رجلين للأقل من ذلك، فإن جاءه تزكية رجل من رجل ثقة عنده، وأتاه آخر ثقة عنده أنه غير عدل أعاد المسألة، قال سحنون‏:‏ ولا يأخذ بقول واحد في الفساد، قال أشهب‏:‏ ولا ينبغي للكاشف أن يقتصر على اثنين بل ثلاثة فأكثر، خيفة أن يكونوا أهل وده، أو أهل عداوته، وينبغي أن يسأل في مساكن الناس وأعمالهم، ولا يعرف المسئول، ولا يصغ القاضي أذنه للنـاس، ولكـن يكشف عن الْمَقول فيه، قال عبد الملك‏:‏ وكل ما يبتدئ القاضي السؤال عنه قَبِل فيه الواحد لأنه رواية، وما ابتدأ به غيرُه فلا بد من اثنين لأنه من باب الشهادة‏.‏

فـرع

قال ابن يونس‏:‏ ولا يجزئ في التعديل إلاَّ قول معدل عدل مرضٍ لقوله تعالى ‏(‏ذوي عدل‏)‏ وقوله تعالى ‏(‏مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ‏)‏ فنص على الوصفين، قال مَالكٌ‏:‏ ويقبل في التجريح‏:‏ لا أراه عدلاً ولا أصحابه عدلاً، قال سحنون، يكفي التعديل‏:‏ هو عندي من أهل العدالة، جائز الشهادة أو عدل، ولا يزيد على ذلك، ولا يكفي في التعديل ولا التجريح‏:‏ سمعنا فلانًا وفلانًا يقول‏:‏ إن فلانًا عدل، أو غير عدل؛ لأنها شهادة على السماع، إلا أن يكون القائل أشهدهم على التزكية، وفي النوادر‏:‏ قال سحنون‏:‏ إذا قال البينة المجرحة تشهد أن هذه البينة شهدت في هذه القضية بزور، ليست جرحة لأن حاصلهُ أنها تعارضها في هذه الشهادة، قال عبد الملك‏:‏ يُقبل التجريح الْمُجمل من غير بيان في ظاهرة العدالة وغيره، وقال أشهب‏:‏ لا يُقبل في شهود العدالة إلا التجريح المفصل، وإذا جرحه رجلان كل واحد بكبيرة ضُمت الشهادتان لاجتماعهما على أنه رجل سوء، قاله ابن سحنون، وعنه‏:‏ لا بد من الاجتماع على معنى واحد، أو ما هو في معناه، نحو‏:‏ جائر، وآكِل مال اليتامى، وقال ابن حنبل‏:‏ يكتفى بقوله‏:‏ عدل؛ لأن كل عدل مرضي الشهادة، وقال ‏(‏ش‏)‏‏:‏ لا بد أن يقول‏:‏ عدل على ولي، ولا يشترط‏:‏ رضا؛ لأن قوله‏:‏ عدل، قد يكون عدلا في بعض الأشياء أو عند بعض النـاس، فقـوله‏:‏ على ولي، يقتضي نفي العداوة، ولي، يقتضي نفي الصداقة المانعة من الشهادة لهن فثبتت العدالةُ سالمة عن المانع‏.‏

والجواب عما قاله أحمد‏:‏ لا نسلم أنَّ العدل مرضي الشهادة؛ لاحتمال أن يكون عدلاً في دينه دون مروءته وتعلقه وفرط حميته، فإذا قال‏:‏ رضى، حصل الجميع، وعن كلام‏(‏ش‏)‏‏:‏ لا نسلم أن‏:‏ على ولي، يقتضي العدالة على الإطلاق؛ لأنه لو قال‏:‏ عدل على ولي في الأموال، أو في الأشياء المحتقرة؛ لم يكن مناقضًا لقوله؛ لأنه لم يقل‏:‏ على ولي، في كل شيء، ولا عند جميع العلماء‏.‏ بل هذه العبارة تقتضي عدم التعميم؛ لأن مفهومها أنه ليس عدلاً على غيره، ولا لغيره؛ لأنه خصص بنفسه، والتخصيص يقتضي سبب الحكم في غير محله، ثم في هذا الشرط مفسدة عظيمة، وهو أن العدل المتفق على عدالته ذكر ‏(‏كذا‏)‏ يقبل لهذا لفرط القرابة أو المحبة الموجبة للتهمة والريبة، وإن كان مقبولا لغيره اتفاقًا، ولا يقبل عليه لفرط عداوة، ويقبل على غيره، فإذا لم يقبل من المزكي إلاَّ هذه العبارة امتنع تزكية العدو لعدوه، وفي ذلك سد باب المعروف والإعانة على تخليص الحقوق أو يزكيه فيكذب في قوله‏:‏ عدل على؛ لأنه لا يقبل عليه، إنه عبارة الملكية فتقتضي أنه عدل في نفس الأمر، وهذا صادق وإن كان عدوه وهو مقصود الحاكم، وليس مقصود الحاكم أنه يقبله على المزكي أو له، بل ثبوت العدالة في نفس الأمر بمحل ‏(‏كذا‏)‏ المزكي فيقبله ويعتمد عليه حتى يقوم مانع من عداوة أو غيرها، قال ابن يونس‏:‏ قال عبد الملك‏:‏ لا يجزئ تعديل العلانية دون تعديل السر؛ لأن الناس قد يستحيون أو يخافون، ويجتزئ بالسر لأنه لا ريب فيه، ولا يزكي إلا المبرز النافذ الفطن الذي لا يخدع في عقله، ولا يُستْرذَل في رأيه‏.‏ قال سحنون‏:‏ قوله‏:‏ يزكَّى الغائب، معناه‏:‏ إذا كان الشاهد مشهورًا معروفًا وإلا فلا يزكَى إلا بمحضره، وقيل‏:‏ معناه‏:‏ غـائب عن مجلس، حـاضر في البلد، أو قريب الغيبة، وأما بعيدها فيزكى كما يقضَى عليه، وقال ابن أبي زيد، قال اللخمي‏:‏ المشهور بالعدالة لا يحتاج لتزكية، وقد إنك صاحب هذا الاسم، يريد أن لا يحتاج إلى تزكية، واختلف إذا سأل القاضي من حضر، أو سأل من كاشفه، فقيل‏:‏ لا بدَّ من اثنين؛ لأنها شهادة، قال‏:‏ وهو أحسن لقلة والوثوق اليوم بالناس، وقيل‏:‏ يكفي الواحد لأنه من باب الْخَبَر، وقد تقدم ضابطُ الشهادة والرواية، وإذا ثبتت العدالة باثنين فحسن أن يزيد الكشف فلا يزيده إلاَّ خيرًا فإن ارتاب وقف وكشِف، ولا يقبل التعديل بيسير المخالطة بخلاف الجرح؛ لأنه يقين، والأول ظن، قال سحنون‏:‏ لا يزكَّى إلا المخالط في الأخذ والعطاء، الطويل الصحبة في السفر والحضر، واختلف إذا اقتُصر على‏:‏ عدل، أو رضا هل يكون تعديلاً أم لا‏؟‏ لأن العدل رضا، والمرضي عدل، وقد ورد القرآن بقبول شهادة مَن اتَّصف بإحداهما، فلو وصفه بإحداهما فسُئل عن الأخرى فوقف فهو ريبة، وسئل عن سبب وقوفه وفقد يكره ما لا يقدح في العدالة، وإن لم يُسئل فهو عدل‏.‏ وفي المــوازية‏:‏ إذا قال‏:‏ اختبرتُه، أو عاملته فما علمت إلاَّ خيرًا، أو أنه لَرجلٍ صالح فاضل، فهو ثقة، لا يكون ذلك تزكية حتى يقولَ‏:‏ عدل، أو أراه عدلاً، قال اللخمي‏:‏ إذا كان يعلم وجه العدالة، وعلم أنَّ السؤالَ لتمضى شهادته، فذلك تعديل خلافاَ لـ‏(‏ش‏)‏، وقد خرج البخاري في باب العدالة قولَ من يريده أعلم ألا خيرًا، غير أن العدول اليوم عن‏:‏ عدل رضا ريبة، ويزكِّي أهل سوقه ومحلته وجيرانه، ولا يقبل من غيره؛ لأن وقوفهم عن تعديله مع أنهم أعلم به ريبة، فإن لم يكن فيهم عدل قَبِل غيرهم من بلده، قاله ابن يونس، قال سحنون‏:‏ إن عدَّل الرجل من لا يعرف اسمه قبل تعديله فإن الصفات قد تعلم مع الجهل بالاسم والتزكية على المشهود له دون الشاهد، وإنما على الشاهد أن يُخبر المشهود له بمن يعرفه ومن يعدله، قال مالك‏:‏ لا يقـدح في العدالة الأمر الخفيف من الزلة والغيبة ولا يسلم من ذلك‏.‏

فـرع

قال‏:‏ قال سحنون‏:‏ إذا عدل ثم شهد اثنان أنه رده القاضي لأمر تبين له، والقاضي لا يحفظ ذلك، قبل شهادتهما‏.‏

فـرع

في المنتقي‏:‏ تزكية اثنين في كل شيء إلاَّ في الزنا، فنص مالك‏:‏ لا يعدل كل واحد إلا أربعة قياسًا على الأصل، وجوز عبد الملك اثنين عن كل واحد، وأربعة لجميعهم قياسًا على الإحصان‏,‏ واختلف في عدد تزكية السر‏:‏ فعن مالك‏:‏ يكفي الواحد لأنه في معاني أصحاب المسائل، وعنه لا بدَّ من اثنين قياسًا على الجهر‏.‏

فـرع

قال اللخمي‏:‏ إذا ثبتت شهادته ثم شهد مرة أخرى، فإن ظهر للقاضي فضله وبروزه لم تعد التزكية، إلا أن يطول الزمان فيسأل عنه لإمكان حدوث العيب، وإلا كُلِّف التعديلَ ثانية، قاله ابن كنانة، وقال سحنون‏:‏ يُكلِّفه كلما شهد حتى يكثر تعديله وتشهر تزكيته، فلا يكلِّف بعد ذلك، وقال عبد الملك‏:‏ ليس عليه إذا شهد بعد سنة إعادة التزكية؛ لأن الأصل بقاؤها إلاَّ أن يظنَّ فيها أو يرتاب‏.‏

فـرع

قال‏:‏ يسمع الجرح في المتوسط مطلقًا، وفي المبرز بالعداوة أو الهجرة أو القرابة ونحو ذلك، واختلف في الأسفاه ومن هو الذي يجرحه‏؟‏ على أربعة أقوال‏:‏ قال سحنون، لا يقبل إلاَّ من المبرز، قال مطرف‏:‏ يجرح الشاهد مثله أو أعلى منه دون من هو دونه إلا بالعداوة والهجرة دون الأسفاه، وقال مما يثبت بالكشف وقال‏:‏ مطرف‏:‏ تقبل جرحته ممن هو دونه بالأسفاه والعدواة، قال وهو أحسن؛ لأن الجرح مما كتم، فقد لا يطلع عليه إلاَّ من هو دونه، وهي شهادة، فقيل‏:‏ كسائر الشهادات، وسُئل عن الجرحة فقيل‏:‏ ‏(‏كذا‏)‏ ما لا يخفي عن الناس لم يُقبل فيه منفردًا، وإن كان يخفى مثله قبل، قال‏:‏ والأحسن‏:‏ التجريح سرًا ليسلم الشاهد من الأذى، ومن حق الشاهد والمشهود له أن يعلما بالمجَرِّح، فقد يكون بينه وبينه عداوة، أو بينه وبين المشهود له قرابة أو غيرها مما يمنع الشهادة بالجرح، ويختلف إذا كان الشاهد أو المشهود ممن يُخاف، هل يسمي المجرِّح أم لا‏؟‏ قال سحنون‏:‏ يسمي ثم يوقف، وجوز ابن القاسم عدم التسمية، والأول أحسن، لفساد القضاة اليوم‏.‏

فـرع

قال في قَبول الجرح مجملاً من غير بيان‏:‏ أربعة أقوال‏:‏ قال مطرف‏:‏ يكتفى من العَالِم بالمجمَل، وقال أشهب‏:‏ لا بدَّ من التفصيل في المجروح المشهور بالعدالة، وإلا قُبل الإجمال، وقال ابن كنانة‏:‏ لا يُسأل المجرح المبرز وإلاَّ سئل، وقال سحنون‏:‏ يكفي المجمل مطلقًا، والأحسن‏:‏ البيان إذا لم يفهم؛ لأن الجرح قد يختلف العلماء فيه هل هو جرحة أم لا‏؟‏ كترك التدلك في الغسل ونحوه من المسائل المختلف فيها، وقد يكون للمجروح تأويل قبل، أو يكون في ذلك حق للمجروح كانِتهاكِ عرضه، فلا يقبل‏.‏

فـرع

قال‏:‏ فإن عدَّله اثنان، وجرحَّه اثنان، قيل‏:‏ يقضى بأعدلهما لأنه شأن التعارض، وقيل يقدم الجرح، وقال‏:‏ وللاختلاف ثلاثة أحوال‏:‏ إن اختلفا عن مجلس واحد فقالت إحداهما‏:‏ فعل كذا وقت كذا، في موضع كذا، وقالت الأخرى‏:‏ لم يفعله، قُضي بالأعدل لأنه تكاذب، أو عن مجلسين متقاربين، قدم الجرح مما يخفيه صاحبه، أو متباعدين قدم الأخير لأنه ناسخ إلاَّ أن يعلم أنه في وقت الجرح كان حسن الظاهر كما هو الآن فيقدم الجرح‏.‏

المسألة الثانية‏:‏ في الكتاب‏:‏ تجوز شهادة الصبيان بعضهم على بعض في القتل والجراح ما لم يفترقوا أو يختلفوا إن كانوا اثنين فأكثر، وهم صبيان كلهم، ولا يجوز إثبات الصبيان في الجراح بينهم لعدم ضرورة اجتماعهم، ولا تجوز شهادة الصبيان لكبير على صغير، وإن شهدت بنية على قول صبي‏:‏ فلاناَ الصبي قتله لم تقبل، ولا يقسم بذلك وإنْ اعترف القاتل لضعف اللوث‏.‏ وليس في الصبيان قسامة فيما بين بعضهم لبعض، إلا أنْ يشهد كبير أنَّ كبيرا قتل صغيرا فيقسم أولياؤه لقوة اللـوث حينئذ، وقال أشهب وغيره؛ لا تجوز شهادة الصبيان، ولا شهادة الإناث لعدم العدالة، وقال المخزومي‏:‏ تجوز شهادة الإناث، وشهادة ذكور الصبيان في القتل جائزة وقال ابن نافع وغيره في شهادة الصبيين على صبيين إنه جرح صبيا ثم ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏في جرحه فمات، إنَّ ولاته يقسمون‏:‏ لَمَاتَ من ضربه ويستحقون الدية، وخالفنا الأئمة في قبول شهادة الصبيان‏.‏ وقال بقبولها على، وابن الزبير، وعمر بن الخطاب، ومعاوية رضي الله عنهم، وخالفهم ابن عباس رضي الله عنه‏.‏

لنا‏:‏ قوله تعالى ‏(‏وأَعِِدُّوا لَهُم ما استطعتُم مِن قُوَّة‏)‏ واجتماع الصبيان للتدريب على الحرب من أعظم الاستعداد؛ ليكونوا كثيرًا أهلاً لذلك، ويحتاجون في ذلك إلى حمل السلاح حيث لا يكون معهم كبير، فلا يجوز هدر دمائهم فتدعو الضرورة لقبول شهادتهم على الشروط المعتبرة، والغالب مع تلك الشروط الصدق وندرة الكذب، فتقديم المصلحة الغالبة على المفسدة النادرة هو دأب صاحب الشرع، كما جَوَّزَ الشرع شهادة النساء منفردات في موضع لا يطلع عليه الرجال للضرورة ولأقوال الصحابة رضي الله عنهم‏.‏

احتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏واستشهِدُوا شَهيدين من رجـالِكُم‏)‏ وهو منع لشهادة غير البـالغ وبقوله تعـالى‏:‏ ‏(‏وأشهِدُوا ذَوَيْ عَدلٍ منكم‏)‏ والصبي ليس بعدل، وبقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولا يأبَ الشهداءُ إذا ما ُدعوا‏)‏ وهو نهي، والنهي لا يتناول الصبي، فدل على أنه ليس من الشهداء‏.‏ ولأنه لا يلزمه إقراره فلا تعتبر شهادته كالمجنون، ولأن الإقرار أوسع من الشهادة لقبوله من العبد والفاسق بخلاف الشهادة، وقياسًا على غير الجراح، ولأنَّها لو قبلت لقبلت إذا افترقوا كالرجال، وليس فليس، ولأنها قبلت لقبلت في تخريق ثيابهم في الخلوات أو لجازت شهادة النساء بعضهن على بعض في الجراح‏.‏

والجواب عن الأول‏:‏ أنه إنما يمنع الإناث لاندراج الصبيان مع الرجال في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏فإن كانوا إخوةً رجالاًّ ونساءً فللذَكَر مثلُ حظِّ الأُنْثَيَيْن‏)‏ ولأن الأمر بالاستشهاد إنما يكون في المواضع التي يمكن استثناء الشهادة فيها اختيارًا؛ لأن من شرط النهي الإمكان، وهذا موضع ضرورة تقع فيه الشهادة بغتة فلا يتناولها الأمر فتكون مسكوتًا عنها‏.‏ وهو الجواب عن الآية الثانية وقوله تعالى، وعليه تحمل الآية الثالثة في الشهداء الذين استشهدوا اختيارًا، على أن هذه الظواهر عامة، ودليلنا خاص فيقدم عليها‏.‏

وعن الثاني‏:‏ أن إقرار الصبي إن كان في المال فنحن نسويه بالشهادة لأنهما لا يقبلان، وفي الدماء إنْ كان عمدًا، وعمده خطأ، فيؤول إلى الدية فيكون إقراره على الغير فلا تقبل كإقرار البالغ‏.‏

وعن الثالــث‏:‏ الفرق أنَّ الدماء حرمتها أعظم بدليل قبول القسامة، ولا يقسم على درهم‏.‏

وعن الــرابع‏:‏ أن الافتراق يحتمل التعليم والتغيير، والصغير إذا خُلِّيَ وسجيته الأولى لا يكاد يكذب، والرجال لهم وازع شرعي إذا افترقوا بخلاف الصبيان‏.‏

وعن الخامــس‏:‏ ما تقدم من مزيد حرمة الدماء، ولأن اجتماعهم ليس لتخريق ثيابهم غالبا‏.‏ بل للضرب والجراح‏.‏ وأما النساء فلا يجتمعن للقتال ولا هو مطلوب منهن‏.‏

تفريــع‏:‏ قال القاضي في المعونة‏:‏ إذا أُجيزت فبتسعة شروط، وستقف بعد هذا على اشتراط عدم شهادة الكبير معهم، وأن يكون الموطن لا يحضره الكبار، وأن يكون المقتول حاضر الجسد، فتكون الشروط اثني عشر‏:‏ العقل ليفهموا ما رأوه، والذكورة؛ لأن الضرورة لا تحصل في اجتماع الإناث، وروى عن مالكٍ‏:‏ تقبل شهادة إناث اعتبارًا لهن بالبالغين لَوَثًا، ثم في القسامة والحرية‏.‏ لأن العبد لا يشهد، والإسلام؛ لأن الكفر لا يقبل في قتل أو جرح؛ لأنه الذي تدعوا الضرورة الشرعية إليه، وقيل‏:‏ يقبل في الجراح فقط؛ لأنها شهادة ضعيفة فاقتصر فيها على أضعف الأمرين‏.‏ وأن يكون ذلك بينهم لعدم ضرورة مخالطة الكبير لهم قبل التفريق لئلا يُلقَّنُوا الكذب، واتفاق أقوالهم؛ لأن الاختلاف يخل بالثقة، اثنان فصاعدا لأنهم لا يكونون أحسن حالاً من الكبار‏.‏ قال ابن يونس‏:‏ قال محمد‏:‏ إذا قُيدت شهادتُهم قبل افتراقهم بالعدول ولا يضر رجوعهم إلاَّ أن يتراخى الحكم حتى يكبروا ويعدَّلوا فَيُؤْخَذُوا برجوعهم إذا تيقنوا أنَّهم شهدوا بباطل‏.‏ وقال سحنون‏:‏ والفرق بينهم وبين الكبار‏:‏ أنَّ رجوع الكبار يدل على أنهم كانوا على باطل خوفًا من عذاب الله تعالى، والصبيان يرجعون لأهواء، فأول أقوالهم هو الصحيح، ولا تقدح في شهادتهم العداوة والقرابة لضعف مروءته وحمايتهم، فينطقون بما رأوا من غير مراعاة للقرابة والعداوة، ومنعها ابن القاسم قياسًا على الكبار، ومنعها ابن الحكم في القرابة دون العداوة؛ لأن العداوة تكون لسبب وتزول، فهي ضعيفة، ولأنها لا غور لها عندهم، والقرابة دائمة متأكدة، ولا ينظر إلى جرحه اتفاقًا، وقال محمد‏:‏ لا تجوز لكبير على صغير في الجراح؛ لأنه بينهم فهو يحسهم، ويجوز في قتله على الصبي لعدم التجنيب لأنه عدم، وتجب الدية على عاقلةِ الجاني، وقال مالك‏:‏ إذا شهد صبيان وكبير على صبي أنه قتل صبيا، سقطت الصبيان؛ لأن الكبير قد يخببهم، قال محمد‏:‏ ويقسم مع الكبير إن كان عدلاً، قال سحنون‏:‏ ولا تجوز شهادة الصبيان حيث يحضر الكبار ورجال أو نساء لأن النساء تجوز في الخطأ، وعمد الصبي كالخطأ، وحضور الكبار يسقطهم لعدم الضرورة إلا أن يكون الكبار ظاهري الجرحة، وتوقف ابن حبيب في إجازتها حينئذ، قال ابن نافع وغيره‏:‏ إذا شهد صبيان على صبي أنه جرح صبيًا ثم نزى في جرحه ومات، فيه القسامة والدية‏.‏ وقاله سحنون خلاف المدونة، وإنما يجب في المدونة دية الجرح فقط، قال مالك‏:‏ إذا لعب ستة صبيان في بحر فغرق واحد فشهد ثلاثة أن الاثنين غرًقاهُ، وشهد الاثنان أن الثلاثة غرقوه، الدية على الخمسة لاختلاف الشهادة، وقال محمد‏:‏ هذا لا يقتسم، وتسقط شهادتهم للاختلاف، وقاله مطرف، وقال‏:‏ لو كانوا كبارا فاختلفواكانت الدية عليهم في أموالهم؛ لأنه صار إقرارًا كأنهم قالوا‏:‏ لم تخرج الجناية عنا‏.‏ قال عبد الملك‏:‏ لو شهد صبيان بقتل صبي من صبي، وشهد آخرون أن القاتل ليس منهما، بل دابته قتلته جُبَار، مضت الشهادة على القاتل، وقيل‏:‏ ذلك اختلاف يسقط الشهادة، وإنما قاسه على الكبار، وإن من أثبت حكمها أولى من نافيه‏,‏ قال أصبغ‏:‏ ولو شهد كبيران أنا كنا حاضرين حتى سقط الصبي فمات ولم يقتله، لعدَّت شهادة الصبيان كما لو تعارض الكبار هاهنا ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ في القتل والحدود والطلاق والعتاق؛ لأن المثبت أولى‏.‏ وأنكره سحنون‏.‏ وقال أصحابنا‏:‏ يقدمون الكبيرين، ولأن شهادة الصبيان تبطل بحضور الكبار، قال صاحب البيان عن عبد الملك وابن نافع‏:‏ تجوز شهادة صبي مع يمين المشهود له إذا بلغ، وقيل‏:‏ يحلف والده عنه ويستحق، وقيل تجوز شهادة الإناث في القتل والجراح، وقيل‏:‏ بل في الجراح دون القتل، وهو قول المخزومي في المدونــة على أحد التأويلين، وقيل‏:‏ وحدهن دون صبي، كما تجوز شهادة امرأتين دون رجل فيما لا يحضره الرجال، وقال عبد الملك، وقال مطرف‏:‏ لا بد من اثنين فيهن صبي؛ لأن العادة أنهن يختلطن مع الصبيان، واختلف في اشتراط عدم حضور الكبير من الصبيان، وعدم اشتراطه، وقال‏:‏ هو ظاهر المدونة عندي، ووقع منع شهادة الصبيان مطلقًا في النــوادر، وقال غير واحد من أصحابنا‏:‏ لا يجوز في القتل حتى يشهد العدول على رؤية البدن مقتولا تحقيقا للقتل، قال عبد الملك‏:‏ وأقل ما يجوز في شهادة الصبيان‏:‏ غلامان أو غلام وجاريتان، ولا يجوز غلام وجارية، وقال سحنون‏:‏ ولا يحلف مع صبيين في قتل الخطأ؛ لأنهما كشهادة غلام، وقد جاء عن علي أنه أجاز شهادة الصبيان، وهذا جمع فيه الذكور والإناث، وعن مالك‏:‏ تجوز شهادة الإناث، وأقل ذلك‏:‏ اثنتان مع صبي، وإذا شهد صبيان أن صبيًّا قتل صبيًّا لزم العاقلة الدِّية بغير قسامة؛ لأنهما كالكبير، وإذا شهد اثنان من الصبيان أن فلانًا الصبي شج فلانًا الصبي، وشهد آخران‏:‏ إنما شجه فلان، قال مالك‏:‏ بطلت شهادتهم، وقال عبد الملك‏:‏ لا تبطل شهادة الصبيان إلا أن يشهد الكبار أن ما شهدوا به لم يكن عن معرفة ومعاينة، أو شهدوا باختلاف قولهم، أو أنهم افترقوا قبل الشهادة، ولا تسقط بمثل هذا شهادة الكبار لقوة شهادتهم، وإذا شهد الصبيان ثم شهد اثنان قبل الحكم وبعد البلوغ والعدالة‏:‏ أن ما شهدنا به نحن والباقون باطل، سقطت الشهادة كلها بشهادة العدول ببطلانها، وقال سحنون‏:‏ لا رجوع للصبي ولا ضمان عليه، ولو رجع بعد البلوغ والحكم لم يضمن؛ لأنها كانت في وقت توجب ضمانًا ولا أدبًا لو رجع‏.‏

فـائدة‏:‏ قال الأصحاب في هذه المسألة‏:‏ تُقبل شهادتهم قبل أن يُخببوا، مأخوذ من الخب الذي هو الخديعة، لقول عمر رضي الله عنه‏:‏ إياكم ورَطَانَة الأعاجم فإنها خِبٌّ‏.‏ أي تخدع من لا يعرفها فيتواطأوا على أذيته وهو لا يشعر لقوله‏:‏ لست بالخِبِّ والخِبُّ لا يخدعني‏.‏ فكان تعليم الصبي أن يكذب، ويجري شهادته خداع في الشهادة وحيلة على المشهود له‏.‏

المسألة الثالثة‏:‏ في الكتــاب‏:‏ يجمع الرجل إذا شهدت البينة انه شارب خمر، أو آكل ربا، أو صاحب قيان، أو كذاب في غير شيء واحد ونحوه، ولا يجرحه إلا عدلان، وقال ربيعة‏:‏ ترد شهادة الظنين وهو المغموصُ‏,‏ في خلائقه ومخالفة حال العدل وإن يظهر منه قبيح عمل‏.‏

في التنبيهات‏:‏ القيان‏:‏ المغنيات، وأصل القينة‏:‏ الأمة، وصاحب القيان‏:‏ هو الذي يكن عنده، ويحتمل أنه الذي يسمعهن أينما كن له أو لغيره‏.‏

وفي الكتاب‏:‏ تمنع شهادة المغني والنائحة إذا عرفوا بذلك، والشاعر الذي يمدح من أعطاه ويهجو من منعه، فإن كان يأخذ ممن أعطاه ولا يهجو من منعه قُبل؛ لأن الذمَّ حرام والأخذ مكروه، ومدمن الشطرنج لا يقبل بخلاف لاعبها مرة بعد مرة؛ لأنه صغير مختلف فيها، وكره مالك اللعب بها، وقال‏:‏ هي شر من النرد، وتجوز شهادة المحدود في القذف إذا حسنت حاله في الحقوق والطلاق، وفي النكت‏:‏ تجوز شهادة الفقير الذي يقبل ما يعطى من غير سؤال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما أتاك من غير مسألة فخذه، فإنما هو دنق دنقكه الله‏)‏ وقال أحمد ابن نصر‏:‏ الذي لا تجوز شهادته بإدمان الشطرنج الذي يلعب بها في السنة أكثر من مرة، قال ابن يونس‏:‏ قال محمد‏:‏ ولعب الحمام كالشطرنج ترد الشهادة بهما إن قامر أو أدمن من غير قمار، وقال ابن عبد الحكم‏:‏ إن لعب بالشطرنج حتى يشغله عن الصلوات في الجماعات لم يقبل وإلا قبلت، وقيل‏:‏ ترد شهادته ولم يذعن للشطرنج، ومنع مالك شهادة القدرية، قال سحنون‏:‏ ترد شهادة أهل البدع كلهم‏:‏ المعتزلة، والإباضية، والجهمية، والمرجئة وغيرهم؛ لأن البدع إما كفر، أو كبيرة، قال عبد الملك‏:‏ من عرف بالبدعة لا يقبل بخلاف من لطخ بها غير صريح، ومنع سحنون شهادة المنجم الذي يدعي القضاء‏.‏ قال ابن كنانة‏:‏ ولا الكاهن لورود النهي عن ذلك والتغليظ فيه، واختلف في شهادة من ترك الجمعة مرة أو ثلاثا، قال ابن كنانة‏:‏ لا يقبل من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود إن تعمد ذلك في فرض أو نافلة، لوجوب ذلك فيهما بالشروع، قال سحنون‏:‏ إذا لم يحج وهو كثير المال في طول الزمان من غير مانع، لا يقبل، ورد ابن القاسم قاطع الدنانير إلا أن يعذر بجهل وعنه‏:‏ وإن كان جاهلا لإفساد سكة المسلمين، وقال سحنون‏:‏ لا ترد شهادته، قال ابن يونس‏:‏ إن كان البلدُ دنانيرهم مقطوعة مجموعة فأحسن قول سحنون، وإلاَّ فقول ابن القاسم، قال صاحب البيان‏:‏ في قاطعها أقوال‏:‏ ثالثها‏:‏ الفرق بين الجاهل وغيره، قال‏:‏ وهذا الاختلاف - عندي - إنما هو إذا قطع الدراهم أو الدنانير وهي وازنة فردَّها ناقصة في البلد الذي لا تجوز فيه ناقصة، وهي تجري فيه عددا غير وزن فينفقها، وتبين نقصها، ولا يغش بها، وأما إن لم يبين وغش فلا خلاف أنه جرحة، وأما إن قطعها وهي مقطوعة أو غير مقطوعة غير أنها لا تجوز أعيانها بل بالميزان، فلا خلاف أنها ليست جرحة، وإن كان عالما بمكروه ذلك، ويحتمل حمل الخلاف على اختلاف هذه الأحوال، فلا يكون فيه المسالة خلاف، قال ابن يونس‏:‏ قال سحنون‏:‏ خروج الفقيه الفاضل للصيد ليس بجرحة، ومطل الغني بالدين جرحة، والوطء قبل الاستبراء إن كان لا يجهل مكروه ذلك، وكذلك وطء صغيرة مثلُها يوطأ قبل الاستبراء، قال عبد الملك‏:‏ الأقلف يترك القلفة لعذر قُبلت شهادته وإلا فلا، قال ابن عبد الحكم‏:‏ سماع صوت العود وحضوره من غير نبيذ جرحة إلا أن يحضرها في عرس أو صنيع فلا يبلغ رد الشهادة إذ لم يكن معه نبيذ، وسماع الغناء ليس بجرحة إلا أن يدمن ولا يقرأ القرآن بالألحان فإن فعل ففي رد شهادته خلاف، قال أشهب‏:‏ من ظهرت توبته، جازت شهادته، حد في قذف أو غيره من الحدود؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا‏)‏‏.‏

وقال ابن القاسم وأشهب وسحنون‏:‏ لا ترد شهادة القاذف حتى يُجلد، وبقبول شهادة القاذف إذا تاب قل ‏(‏ش‏)‏ وابن حنبل، وقال ‏(‏ح‏)‏‏:‏ بعدم قبولها‏.‏ لنا‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏(‏إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبأ فَتَبَيَّنُوا‏)‏ الآية، فدل ذلك أن العدل لا يتبين في خبرهِ‏.‏ ويقبل وهذا عدل، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ منْ ِرَجالِكُمْ‏)‏ وقال أيضا ‏(‏وَأْشِهُدوا َذوَيْ عَدْلِِ‏)‏ ولم يفرق، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏إنَ الله ُيحِبُ الَتَّوابِينَ‏)‏ ومن أحبه الله تعالى فهود عدل، والاستثناء في آيات القذف يدل على ذلك، وإجماع الصحابة، فإن الذين شهدوا على المغيرة بالزنا جَلَدَهُم عمر رضي الله عنه ثم قال لهم بعد ذلك‏:‏ توبوا تقبل شهادتكم، فتاب منهم اثنان فقَبل شهادتهما، وقال لأبي بكرة‏:‏ تب تقبل شهادتك، وهو يقول‏:‏ لا أتوب‏.‏ ولم يخالفه أحد، فكان إجماعا منهم، ثم الكافر إذا قذف فحد ثم أسلم قُبلت شهادته، فكذلك المسلم، وجميع الحدود إذا تاب جُناتُها قُبلوا، وهي أعظم من القذف كالزنا إجماعا، والحد مطهر فيجب القبول، والحد استيفاء حق فلا يبقي مانع من القبول‏.‏ احتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وَلاَ تَقْبَلُوا لََهُمْ شَهَادَةً أَبَدَا‏)‏ ولم يفرق، ولأنه خصص بهذا، فلو أنه يقبل إذا تاب، وسائر المعاصي كذلك؛ لم يبق في التخصيص فائدة، ولأن الْجَلد لا يرتفع بالتوبة فكذلك رد الشهادة، ولأن الاستثناء في الآية يجب عوده على آخر جملة في الآية، وهي قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وَأُولَئِكَ هُم الفَاسِقون‏)‏ صونا للكلام عن الإبطال، فيبقى قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولا تَقْبَلُوا لَهُم شَهَادَةً أَبَدًا‏)‏ على حاله، وأصل مالك‏:‏ عود الاستثناء على الجملة الأخيرة فلم ينقض أصله هاهنا‏.‏

والجواب عن الأول‏:‏‏:‏ إنا نخصص التأبيد بحالة عدم التوبة لأنه فسق‏.‏

وعن الثاني‏:‏ أن فائدة التخصيص ثبوت الحكم في الزنا، وغيره بطريق الأولى؛ لأن القذف اخفض رتبة مِنها، فإذا ردت الشهادة فأولى بغيره‏.‏

وعن الثالث‏:‏ أن الحد حق كأخذ المال والقصاص، فكما لا يسقط رد المال في الحرابة وغيرها بالتوبة، فكذلك الحدود لا شهادة إنما هو اهتضام والحار عن تعظيم الله تعالى، والحوبة، تمحوها التوبة، تقبل شهادته‏.‏

وعن الرابع‏:‏ أن العلة في أحكام هذه المسائل واحدة، وهي القذف وقبح الجناية، فإذا زال ذلك بالتوبة وحسنت حاله مع الله تعالى زالت تلك الأحكام كلها لزوال سببها المتحد إلا الحد لكونه لا يزول لما تقدم، ولقوله صلى الله عليه وسلم في الغامدية‏:‏ ‏(‏لقد تَابَتْ تَوبةً لو تابها صاحبُ مَكْس لَغُفِرَ لَه‏)‏ فأخبر عن عظيم توبتها، ومع ذلك رجَمَها‏.‏ فعلم بأن الحدود لا تسقط بالتوبة إلا الْحِرابة، لكون الحد فيه تنكيلاً، ولا تنكيل مع التوبة، وهو في غيرها إن وقع قبل التوبة هو تنكيل، أو بعدها فتطهير، وهو الجواب عن مخالفتنا لأصلنا‏.‏ فإنا إنما نقول بعوده على الأخيرة إذا لم يكن سببها واحدا، وقال صاحب المنتقـى‏:‏ إذا ترك الجمعة مرة واحدة‏:‏ قال أصبغ‏:‏ هي جرحة كإحدى الفرائض، وهو ظاهر ما قاله ابن القاسم في العتبية، ومنع سحنون حتى يتركها ثلاثا متواليات؛ لأنه الذي جاء فيه الحديث، والواجبات على التراخي لا يفسق إلاَّ بتركها المدة الطويلة الذي يغلب على الظن تهاونُه بها مع تمكنه من أدائها‏.‏ والمندوب إن كان يتكرر ويتأكد كالوتر، وركعتي الفجر، وتحية المسجد‏:‏ تركه جرحة إذا أقسم‏:‏ لايفعله، أو تركه جملة، لأن ذلك يدل تهاونه بالدين،تركه مرة، وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الحالف‏:‏ لا أزيد على ذلك ولا أنقص، الحديث المشهور‏:‏ ‏(‏أفلح إن صدق‏)‏ فالحالف إنما حلف أن لا يفعل غير ما ذكره له صلى الله عليه وسلم على وجه الوجوب‏:‏ أن لا يزيد زيادة مفسدة كركعة خامسة، ولو كان معناه‏:‏ لا أفعل شيئا من الخير لأنكر عليه كما أنكر على الذي سمعه يحلف عند باب المسجد، وخصمه يستو ضعه من حقه، وهو يقول‏:‏ والله لا أفعل، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ أين المتألى أن لا يفعل المعروف‏؟‏ فقال‏:‏ أنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ مَهْ أي دَعْ‏.‏

تنبــيه‏:‏ قال صاحب المقدمــات‏:‏ المشهور‏:‏ قبول شهادة القاذف قبل جلده، كما نقله ابن يونس، وقاله ‏(‏ح‏)‏ وردها عبد الملك، ومطرف، و‏(‏ش‏)‏ وابن حنبل‏.‏ لنا‏:‏ أنه قبل الْجَلد فاسق؛ لأنه ما لم يفرغ من الجلد، ويجوز رجوع البينة وتصديق المقذوف، فلا يتحقق الفسق إلا بعد الجلد، والأصل‏:‏ استصحاب العدالة والحالة السابقة، احتجوا‏:‏ بأن الآية اقتضت ترتيب الفسق على القذف، وقد تحقق القذف فيتحقق الفسق سواء جُلد أم لا، ولأن الْجَلد فـرع ثبوت الفسق، فلو توقف الفسق على الحد لزم الدور، ولأن الأصلَ‏:‏ عدم قبول الشهادة إلاَّ حيثُ تيقنا العدالة، ولم تتيقن هاهنا فيرد‏.‏

والجــواب عن الأول‏:‏ أنَّ الآية اقتضت صحـة ما ذكرنـاه، وبطلان ما ذكرتموه؛ لأن الله تعالى قـال‏:‏ ‏(‏فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُم الفَاسِقُون‏)‏ فرتب رد الشهادة والفسق على الْجَلد، وترتيب الحكم على الوصف يدل على علية ذلك الوصف لذلك الحكم، فيكون الجلد هو السبب في الفسق، فحيث لا جلد لا فسوق، وهو مطلوبنا وعكس مطلوبكم‏.‏

وعن الثاني‏:‏ أن الجلد فرع ثبوت الفسق ظاهرًا ظهورًا ضعيفًا لجواز رجوع البينة، وقال أشهب‏.‏ أو تصديق المقذوف، فإذا أقيم الحد قَويَ الظهور بإقدام البينة وتصميمها على أذية القاذف، وكذلك المقذوف، وحينئذ نقول‏:‏ إنَّ مدرك رد الشهادة إنما هو الظهور القوي؛ لأنه المجمع عليه، والأصل‏:‏ بقاء العدالة إلا حيث أجمعنا على انتفائها‏.‏

وعن الثالث‏:‏ أن الأصل‏:‏ بقاء العدالة السابقة‏.‏

تنبيه‏:‏ قال صاحب المنتقى‏:‏ قال القاضي أبو إسحاق، و‏(‏ش‏)‏‏:‏ لا بدَّ في توبة القاذف من تكذيبه لنفسه، فإنما قضينا بكذبه في الظاهر لما فسَّقْنَاه، فلو لم يكذب نفسه لكان مصرا على الكذب الذي فسقناه لأجله في الظاهر، وعليه إشكالان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه قد يكون صادقًا في قذفه، فتكذيبه لنفسه كذب، فكيف تشترط المعصية في التوبة وهي ضدها، وتجعل المعاصي سبب صلاح العبد وقبول شهادته ورفعته‏؟‏ وثانيهما‏:‏ أنه إن كان كاذبا في قذفه فهو فاسق، أو صادقا فهو عاص؛ لأن تعيير الزاني بزناه معصية، فكيف ينفعه تكذيب مع كونه عاصيا بكل حال‏.‏

والجواب عن الأول‏:‏ أن الكذب لأجل الحاجة جائز، كرجل مع امرأته، والإصلاح بين الناس، وهذا الكذب فيه مصلحة الستر على المقذوف، وتقليل الأذية والفضيحة عند الناس، وقبول شهادته في نفسه، وعوده إلى الولايات التي تشترط فيها العدالة، وتصرفه في أموال أولاده‏.‏ وتزويجه لمن يلي عليه، وتعرض للولايات الشرعية‏.‏

وعن الثاني‏:‏ أن تعيير الزاني صغيرة لا يمنع من الشهادة، وقال مالك‏:‏ لا يشترط في توبته ولا قبول شهادته تكذيبه نفسه، بل صلاح حاله بالاستغفار والعمل الصالح كسائر الذنوب‏.‏

تفريع‏:‏ قال ابن يونس‏:‏ قال سحنون‏:‏ ترد شهادة المحدود فيما حد فيه من قذف أو غيره وإن تاب، كشهادة ولد الزنا في الزنا للتهمة في تسوية الناس، وجوزها ‏(‏ش‏)‏ و‏(‏ح‏)‏ في الزنا وغيره، وقال عبد الملك وغيره‏:‏ ترد شهادة الزاني في الزنا والقذف واللعان وإن تاب، والمنبُوذ، وكذلك لا تجوز شهادته في شيء من وجوه الزنا للتهمة، وقال مالك‏:‏ تقبل شهادة ولد الزنا إلا في الزنا، قال‏:‏ فإن قيل‏:‏ ينبغي أن لا يقبل السارق في السرقة، والقاذف في القذف، والزاني في الزنا، قيل‏:‏ قد قيل وليس بصحيح عند مالك، بل قَبِل مالك القاذف في القذف وغيره، والفرق بين هذه وبين ولد الزنا‏:‏ أن معرفة هذه الأشياء تزول بالتوبة كالكافر إذا أسلم، ولكونه ولد زنا دائم المعرة، وهذا موافق للمدونة، والقياس‏:‏ ما قاله سحنون في اعتبار التهمة‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ إذا حد نصراني في قذف ثم أسلم بالقرب، فثبت شهادته، وتوقف سحنون فيه حتى يظهر صلاحهم حاله كالمسلم‏.‏

فرع‏:‏

في النوادر‏:‏ قال ابن كنانة‏:‏ تُرد شهادةُ من لا يُحكم الوضوء ولا الصلاة ولا يعذر في ذلك بالجهل؛ لأن التعلم واجب قبل العمل، وكذلك إن لم يعلم التيمم وقد وجب عليه، وكذلك الجهل بنصب الزكاة وقدر الواجب فيها إذا كان ممن تلزمه الزكاة، قال ابن القاسم‏:‏ ويرد الفار من الزحف حيث يجب الوقوف، قال سحنون‏:‏ يرد بائع النرد، والعيدان، والمزامر، والطنبور، وعاصر الخمر وبائعها وإن لم يشرَبْها، فإن باعها عصيرا لم يرد إلا أن يقدم إليه فلا ينتهي، ويرد موجب الحانوت لبيع الخمر وهي له أو لغيره، قال محمد‏:‏ وكذلك الذي يستحلف أباه في حق وهو جاهل أو جده وإن كان حقه ثابتا؛ لأنه عقوق ولا يعذر بالجهالة، قال سحنون‏:‏ إذا تسلف من حجارة المسجد ورد عوضها وقال‏:‏ ظننت أن هذا يجوز، إذ قد يجهل مثل هذا، قال ابن القاسم‏:‏ إذا سمَّى ابن فلان‏,‏ وأنَّها مات ابن فلان، وله أمة حامل، فولدت هذا،فلم يورثه الورثة ولا ادَّعوا رقَبته ولا رقبةَ أمة، وكبر، وانتسب إلى الميت ولم يَطلب الميراث، فينبغي أن يسأل بني الميت إن أَقَرُّوا به لم يضره ترك الميراث، وإن لم يُقِرُّوا ولا قامت بينة بوطء أبية الأمة لم تجز شهادته، فإن أعتقه الورثة مع أمـه وهو مقيم على الانتساب للميت، ردت شهادته‏.‏

قــاعدة‏:‏ الكبيرة‏:‏ ما عظُمت مفسدتُها، والصغيرة‏:‏ ما قلَّت مفسدتُها، فيعلم ما ترد به الشهادة بأن يحفظ ما ورد في السُّنَّة أنه كبيرة، فيلحق به ما في معناه، وما قصر عنه في المفسدة لا يقدح في الشهادة‏.‏ فورد في الحديث الصحيح، ونقله مسلم وغيره‏:‏ ‏(‏مَا َأكْبرُ الَكَبائِر يا رسولَ الله‏؟‏ فَقال‏:‏ أن تَجَعَل لله شَريكًا وقد خَلَقَك‏,‏ قُلت‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ أَن َتُقُتَلَ ولدَكَ خَوَفَ أن َيأكُلَ َمعَكَ، قُلت‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ أن تُزَانِيَ َحلِيَلةُ جَارِكَ‏)‏ وفي حديث آخر ‏(‏اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَات قِيلَ‏:‏ وما هُنَّ يا رَسُولَ الله‏؟‏ قال‏:‏ الشِّرْكُ بالله، والسِّحْرُ، وقَتْلُ النَّفْسِ التي حَرَّمَ الله إلاَّ بالحقِّ، وَأَكْلُ مَالِ اليتِيمِ، والتَّولِّي يَومَ الزَّحْفِ، وَقَذْفِ الْمُحصَنَات ِالغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ، وأكلُ الرِّبا، وشهادةُ الزُّورِ - وفي بعض الأحاديث - وعقُوقُ الوَالِدَيْن -وفي آخرَ - واستِحْلاَلُ البَيْتِ الْحَرَامِ‏)‏ قال بعض العلماء‏:‏ كلُّ مَا نص الله تعالى ورسولُه صلى الله عليه وسلم وتوعد عليه، أو رتب حدًّا أو عقوبة، فهو كبيرة، ويلحق به ما في معناه مما ساواه في المفسدة‏.‏ وثبت في الصحاح‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل القُبْلةَ في الأجنبية صغيرة، فيلحق بها ما في معناها، فتكون صغيرة لا تقدح إلاَّ أن يصرَّ عليها، فإنه‏:‏ لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصْرار‏.‏

تمهــيد‏:‏‏:‏ ما ضابط الإصرار المصيِّر للصغيرة كبيرة‏؟‏ وما عدد التكرار المحصِّل لذلك‏؟‏ وكذلك ما ضابط إخلال المباح بالعدالة، كالأكل في السوق وغيره‏؟‏ ضابطه - كما حرره بعض العلماء -‏:‏ أن ننظر إلى ما يحصل من ملابسة الكبيرة من عدم الوثوق بفاعلها، ثم ننظر إلى الصغيرة، فمتى حصل من تكرارها مع البقاء على عدم التوبة والندم ما يوجب عدم الوثوق به في دينه، وإقدامه على الكذب في الشهادة، فاجعل ذلك قادحًا، وما لا فلا، وكذلك الأمور المباحة، ومن تكررت الصغيرة منه مع تخلل التوبة والندم، أو من أنواع مختلفة مع عدم اشتمال القلب على العودة؛لا يقدح في الشهادة‏.‏

فرع‏:‏

في الجواهر‏:‏ إذا تاب الفاسق قُبل، ولا يكفي قوله‏:‏ تبت، ولا إقرار القاذف بالكذب، بل لا بد في كل فاسق أن يستبرأ حاله مدة بقرائِن الأحوال حتى يغلب على الظن استقامته بالأعمال الصالحات، وحدها بعض العلماء بسنَةٍ من حين إظهار التوبة كالعِنِّينِ، وتأثير الوصول في الغرائم كتأثيرها في الأمراض، قال الإمام أبو عبد الله‏:‏ والتحقيق‏:‏ الرجوع للقرائن، فمن الناس بعيد الغور لا يكاد يعلم معتقده ويغالط الحذَّاق حتى يظنوا أنه صالح فيستظهر في حقه أكثر، ومنهم من لا يكاد يخفى حالُهُ فيكفي زمنًا يظهر فيه الانتقال‏.‏

المسألة الرابعة‏:‏ في الكتاب‏:‏ يمنع شهادة الكافر على المسلم أو الكافر من أهل ملتهم أو غيرها‏.‏ وفي وصية ميت مات في سفره، فإن لم يحضره مسلمون وتمتنع شهادة نسائهم في الاستهلال والولادة، ووافقنا ‏(‏ش‏)‏، وقال أحمد بن حنبل‏:‏ تجوز شهادة أهل الكتاب في الوصية في السفر إذا لم يكن غيرهم، وهم ذمة، ويحلفان بعد العصر‏:‏ ما خانا ولا كتما، ولا اشتريا به ثمنًا ولو كان ذا قربى، ولا نَكْتمُ شهادةَ الله إنَّا إذًا لَمِن الآثِمِين، واختلف العلماء في تأويل الآية، فمنهم من حملها على التحمل دون الأداء، ومنهم من قال‏:‏ المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏من غيركم‏)‏ أي من غير عشيرتكم، وقيل‏:‏ الشهادة في الآية‏:‏ اليمين، ولا يقبل في غير هذا عند أحمد، وقال ‏(‏ح‏)‏‏:‏ يُقبل اليهودي على النصراني، والنصراني على اليهودي مطلقًا؛ لأن الكفرَ مِلَّة واحدة، وعن قتادة وغيره‏:‏ تقبل على ملته دون غيرها‏.‏ لنا‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وَأََغْرَيْنَا بَيْنَهُم العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ إلى يَوْمِ القِيامَة‏)‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏(‏لا تُقْبَلُ شهادةُ عَدُوٍّ على عدُوِّهِ‏)‏ وقياسًا على الفَاسِقِ بطريق الأولى، ولأن الله تعالى أمر بالتوقف في خبر الفاسق وهو أولى، والشهادة آكد من الخبر، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُم‏)‏ وفي الحديث‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏لا تُقْبَلُ شهادةُ أهْلِ دين ٍعلى غيرِ أهْلِ دِينِهم إلاَّ المسلمون، فإنهم عدول عليهم وعلى غيرهم‏)‏ ولأن مَن لا تُقبلُ شهادتُهُ على المسلم لا تُقبل على غيره، كالعبد وغيره، احتجوا‏:‏ بقوله تعالى ‏(‏شهَادةُ بَيْنِكُم إذَا حَضَرَ أحَدَكُم الَمْوتُ حِينَ الْوَصِِّيَّةِِ اْثنَانِ ذَوَا عَدْلٍ منْكُم أو آخَرَانِ مِنْ غَيرِكُم‏)‏ معناه‏:‏ من غير المسلمين من أهل الكتاب‏.‏ وروى عن أبي موسى وغيره، وإذا جازت على المسلمين جازت على الكافر بطريق الأولى‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ أن إليهود جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهم يهوديان، فذكرت له صلى الله عليه وسلم،وظاهره‏:‏ أنه رجمهما بشهادتهم، وروى الشعبي أنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ قال‏:‏ إن شهد منك أربعة رجمتهما‏.‏ ولأن الكفار من أهل الولاية لأنه يزوجه أولاده، ولأنهم يتداينون في الحقوق لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وِمنْ أهْلِ الكَتابِ مَن إن تَأمَنْهُ بِقنْطَارِِ يُؤدَيِِه إليك‏)‏‏.‏

والجواب عن الأول‏:‏ أنَّ الحسن قال‏:‏ من غير عشيرتكم، وعن قَتَادَةَ‏:‏ من غير خلقكم، فما تعين ما قلتموه، أو معنى الشهادة‏:‏ التحمل، ونحن نجيزه، أو اليمين؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏فَيُقْسِمَانِ بِالله‏)‏ كما قال في اللعان، أو لأن الله تعالى خير المسلمين وغيرهم، ولم يقل به أحد فدل على نسخه‏.‏

وعن الثاني‏:‏ أنهم لا يقولون به؛ لأن الإحصان من شرطه الإسلام مع أنه يحتمل أنهما اعترفا بالزنا فلم يرجمهم بالشهادة‏.‏

وعن الثالث‏:‏ أن الفسق وإن نافى الشهادة عندنا، فإنه لا ينافي الولاية؛ لأن وازعها طبعي بخلاف الشهادة وازعها ديني فافترقا، ولأن تزويج الكفار عندنا فاسد، والإسلام يصححه‏.‏

وعن الرابع‏:‏ أنه معارض بقوله تعالى في آخر الآية‏:‏ ‏(‏ذَلكَ بِأنَهُمْ قاُلوا َلْيسَ َعلينا ِفي الأُمِّيِّين سَبِيَل‏)‏ فأخبر تعالى أنهم يستحلون مالنا، وجميع أدلتكم معارضة بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏أمْ حَسِبَت الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أنَ نَجْعَلَهُم كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَالِحاَت‏)‏ فنفى تعالى التسوية، فلا تقبل شهادتهم، ولا حصلت التسوية، وبقوله تعالى‏:‏ ‏(‏لا يَسْتَوِي أْصحِابُ النارِ وَأصْحَابُ الْجَنَّةِ‏)‏ قال الأصحاب‏:‏ ناسخ الآية‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلِ مِنْكُمْ‏)‏‏.‏

فـــرع مرتب‏:‏

من النوادر‏:‏ لو رضي الخصمان بشهادة كافر أو مسخوط، ولا يحكم الحاكم بذلك، قاله ابن القاسم‏.‏

المسألة الخامسة‏:‏ لا تُقبل شهادةُ العبدِ، وقاله‏(‏ش‏)‏و‏(‏ح‏)‏، وقَبِلَها ابن حنبل إلاَّ في الحدود‏.‏ لنا‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏(‏هَل لَكُم مِمَا مَلَكَت أَيْمَانُكُم مِن شُركَاءَ فِيَما رَزَقْنَـاكُم‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ ومنه الشهادة، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُم‏)‏ أي من أحراركم، وإلاَّ لم يبق لقوله‏:‏ منكم فائدة، قياسًا على التوريث بجامع أنه أمر لا يتبعض احترازا من الحدود وغيرها إلى تبعيض، ولأنه مملوك فلا يتأهل للشهادة كالبهائم أو لأنه مولى عليه كالصبي؛لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولاَ يأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا‏)‏‏:‏ والنهي لا يكون إلا عن ممكن، والعبد لا يتمكن من الإجابة لحق سيده، ولا يستثنى كالصلاة وغيرها بجامع المفروضية؛ لأن ذلك خاص بما أوجبه الله تعالى بخلاف ما يوجبه هو أو غيره على نفسه‏.‏ احتجـوا‏:‏ بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُم‏)‏ وهو من العدول، وقوله تعالى ‏(‏إِنَّ أَكْرَمَكُم عِنْد الله أَتْقَاكُم‏)‏ والعبدُ يتصور منه ذلك، وقياسا على رؤيته‏,‏ وفرقوا بين المال وبين الحدود والقصاص‏:‏ بأن هذه أمور تُدرَأ بالشبهات، فالخلاف في شهادة العبد شبهة تمنعها بخلاف المال‏.‏

والجــواب عن الأول‏:‏ أنه إنما يتناول من يشهد بغير حاجة إلى إذن غيره‏.‏

وعن الثانــي‏:‏ أنَّ العدلَ المرضيَّ، هو المعتدل في ديانته ومروءته، ومروءة العبد تختل بالإهانة بشهادة العادلة‏.‏

وعن الثالث‏:‏ لذي التقوى لا يوجب قبول الشهادة؛ لأن المغفل مُتَّقٍ لا تُقْبَلُ شهادتُهُ مع أن هذه عمومات أدلتنا تخصصها‏.‏

وعن الـرابع‏:‏ أن الرواية أخف رتبة بدليل أن الأمة الواحدة تقبل في الخبر الشهادة، ولأن الشهادة تقع غالبًا على معين، وهي سلطانة تقتضي الكمال والعبد ناقص، والرواية ليست على معين، فلا سلطانة‏.‏

وعــن الخامس‏:‏ أن ثبوت الرق لا يوجب في المال كالمغفل‏.‏

فرع مرتب

في النوادر‏:‏ إذا ظن أنه حرٌّ فحكم به فلم يعلم حتى عُتِقَ، ثم يقوم به الآن فيشهد، ولو قال الخصم‏:‏ شاهدي فلان العبد، فقال القاضي‏:‏ لا أقبله فعُتق، ثبتت شهادته؛ لأن كلام القاضي فُتيا، وقال ابن سحنون‏:‏ إذا أشهد العبد أو الصبي أو النصراني على شهادتهم عدولا، ثم انتقلت أحوالهم إلى حال جواز شهادتهم قبل أن ينقل عنهم‏.‏ لا يقبل النقل عنهم لأن شهادتهم في وقت لا تقبل منهم بخلاف إن شهدوا في الحال الثاني بما عملوه في الحال الأول وهذا قياس قول مالك وأصحابه‏.‏

المسألة السادسة، قال ابن يونس‏:‏ قال ابن القاسم‏:‏ لا تقبل شهادة ابن خمس عشرة سنة إلا أن يحتلم بخلاف ابن ثماني عشرة؛ لأنه مظنة الاحتلام، وجوز ابن وهب الأول؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز ابن عمر وهو ابن خمس عشرة سنة‏.‏ ولا دليل فيه، وقال ابن عبد الحكم‏:‏ إنما أجاز من يطيق القتال، ولم يسألهم عن أسنانهم‏.‏

المسـألة السابعة‏:‏ قال‏:‏ قال ابن القاسم إذا علم حيوانًا أو عقارًا لك، ورآه بيد غيرك يبيعه ويَهِبَه، ويحوِّله عن حاله، ولا يقوم بشهادته، ثم يشهد فيقول له‏:‏ لِمَ لَمْ تَقُمْ بشهادتك قبل هذا‏؟‏ فيقول‏:‏ لم أُسأَل ولم أر فَرْجًا يُطَأْ ولا حُرًّا يُسْتَخدم، وليس على أن أخاصم الناس، ترد شهادته، وكذلك في جميع العروض إذا كانت هذه الأشياءُ تحُوِّل عن حالتها بِعلمِه، وقال غيره‏:‏ هذا إذا كان المشهود له غالبا، أو حاضرًا لا يعلم، أما حاضر يرى فهو كالإقرار، ولم ير ذلك سحنون إلاَّ فيما كان حقا لله، وما يلزم الشاهد أن يقوم به وإن كذبه المدعي بالحرية والطلاق، وأما ما تقدم من العروض وغيرها فلا‏.‏ لأن ربه إن كان حاضرًا فهو ضيع مالِه، أو غائبا فلا شهادة له، وقال ابن يونس‏:‏ ويلزم من هذا التعليل ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ المال إذا كان حاضرًا لا يعلم؛ لأن هذا كانت لأبيه، فعلى الشاهد أن يعلمه وإلا بطلت شهادته‏.‏

المسألة الثامنة‏:‏ في الكتاب‏:‏ يضرب شاهد الزور الاجتهاد؛ لأنها كبيرة، ويطاف به في المسجد الجامع، ولا تقبل شهادته أبدًا وإن تاب وحسنت حاله، وأمر عمر رضي الله عنه بجلده أربعين جلدة، وبتسخيم وجهه، وأن يُطاف به حيث يعرفه الناس بطول حبسه وحلق رأسه، وقال اللخمي‏:‏ يسود وجهه‏:‏ قال ابن الحكم‏:‏ يكتب القاضي بذلك كتابًا، ويشهد فيه، ويجعله نسخًا يستودعه عند من يثق به، واختلف في عقوبته إذا أتى تائباَ ولم يظهر عليه، قال ابن القاسم‏:‏ إذا رجع الشاهد عن شهادته ولم يأتِ بعذر لو أدب لكان أهلاً، قال سحنون‏:‏ لا يعاقب ليلا يمتنع الناس من الاستفتاء، ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يعاقب الأعرابي الذي سأله عن الوطء في رمضان، وأما قبول شهادة شاهد الزور في المستقبل‏:‏ فإن أتى تائبًا لم تنقل حاله إلى خير، قبلت، إلا أن يكون قبل ذلك عرفت بالخير، فلا يبقى انتقاله دليلا، وقال أصبغ‏:‏ لا تقبل شهادته أبداَ إذا أقر بشهادة الزور، قال وَالأول أحسن؛ لأنه لا يتهم حينئذ؛ لأنه أمر لا يعلم إلاَّ من قبله، وأما إن ظهر وتاب وانتقل إلى صلاح‏:‏ قال ابن القاسم‏:‏ لا تُقبل، وعنه‏:‏ أنه يقبل، قال‏:‏ والمنع هاهنا أحسن، ولم يختلف المذهب في الزنديق يظهر عليه أن توبته لا تُقبل ولو عقل عن الزناديق فلم يشهد عليه حتى ظهر صلاحه، وانتقل حاله، ولم يكن كذلك، قال‏:‏ والأشبه قبول توبته، ولأنها شبهة يُدرأُ بِها القتلُ، ويشبه أن لا يقبل؛ لأنه يفعل ذلك لما تقدم من الظهور عليه، قال صاحب البــيان‏:‏ الصحيح أن اختلاف قول مالك في قبول شهادته ليس خلافا بل محمول على حإلىن‏:‏ إن جاء من قبل نفسه قبلت وإلاَّ فلا لعدم الوثوق بتوبته، وقال ‏(‏ش‏)‏‏:‏ يعزر دون الأربعين ويشهر أمره في مسجده أو قبيلته أو سوقه، على حسب حاله،وقال ‏(‏ح‏)‏‏:‏ لا يعزر بل يشهر وينادى عليه في قبيلته أو سوقه،ويحذر الناس منه‏.‏

المســـألة التاسعة‏:‏ قال ابن القصار‏:‏ شارب النبيذ المختلف فيه يُحد ويُفسق ولا تقبل شهادتُه وقال ‏(‏ح‏)‏‏:‏ لا يُحد، وتُقبل شهادتُه، وقال ‏(‏ش‏)‏‏:‏ إن شربه مَن يَعتقد تحريمه حُد وفُسِّق، أو حنفي مُتَأَوِّل حُد وقُبلت شهادته‏.‏ لنــا‏:‏ أن الحد لا يثبت إلا على فاسق، وقد حُد فيكون فاسقًا، كالزِّنا والقذف‏.‏ احتجــوا‏:‏ بأن من اعتقد استباحة محرم فهو أشد ممن يتناوله وهو معتقد لتحريمه، ألاَّ ترى أن من اعتقد استباحة الخمر كفر، ولو شربها معتقد التحريم فسق، ومعتقِد حل النبيذ لا يفسق بالاتفاق، فلا يفسق بالتناول أولى، ولأنه متأول فلا يُفسق لأنه مقلد، ولأن الحد لا يوجب الفسق؛ لأن الزاني بجد انت بحد، ولا هو فاسق، ولأن المعقودات تتبع المفاسد دون المعاصي؛ لأننا نؤدب الصبيان والبهائم مع عدم المعصية، بل لدرء المفسدة، والاستصلاح، فكذلك الحنفي يُحد لدرء مفسدة النبيذ من الإسكار، ولا معصية لأجل التقليد‏.‏

والجواب عن الأول‏:‏ أنه يلزم أن لا يحد شارب النبيذ لاعتقاده تحليله كسائر الأشياء المختلف فيها، ولا يُحد إلا متناول، ولا يكفر باعتقاد إباحة كبقية الحدود، وإذا لم يفترقا في الحد لا يفترقان في الفسق أيضا لثبوت الفرق بين الشيئين لا يوجب اختلافهما في الحكم، فإن الحر أعظم من حُرمة من العبد، وقد ساواه في أحكام كثيرة، والعبد أقوى حرمة من البهائم، وإن كان الجميع مالاً، ومع ذلك ساوى الأموال في كثير من الأحكام‏.‏ يشترى ويكاتب ويوهب وغير ذلك، ثم نقول‏:‏ التناول في النبيذ أشد من اعتقاد إباحته؛ لأن التناول يترتب عليه الحد بخلاف الاعتقاد، والتناول هو المحقق للمفسدة بخلاف الاعتقاد؛ لأن المفسدة هو التوسل لفساد العقل، والاعتقاد وسيله بعيدة‏.‏

وعن الثانــي‏:‏ أن الثاني معتبر أوجب أن لا يُحد؛ لكنه حد فهو غير معتبر، والأصول تقتضي أحد قولينا‏:‏ إما أن يكون النبيذ حرامًا فيفسق ويحد، وهو قولنا، أو حلالاً فلا يُحد ولا يُفسق، وهو قول ‏(‏ح‏)‏ أما حلالاً ولا يفسق ويحد‏:‏ فخلاف الأصول‏.‏

وعن الثالث‏:‏ أنَّا لم نقل‏:‏ إن المحدود لا يجب أن يكون حالة إيقاع الحد فاسقًا بل نقول‏:‏ لا بد أن يكون ذلك الفعل مُفَسِّقًا‏.‏

وعن الرابع‏:‏ أن َّالعقوبات لا تستلزم المعصية؛ لكن العقوبات المحدودة لا تكون إلاَّ في فسوق، فلا نجد حدًّا في مباح عملاً بالاستقراء‏.‏

المسألة العاشرة‏:‏ قال صاحب البيان‏:‏ إذا قال‏:‏ رضيت بشهادة فلان بيني وبينك، فشهد فقال له‏:‏ شهد بغير الحق، قال مالك‏:‏ ذلك بخلاف التحكيم ينفذ وإن كره المحكوم عليه، والفرق‏:‏ أن الشاهد لم يفوض الأمر على اجتهاده، بل المطلوب معين تمكن المنازعة فيه إذا عَدل عنه، والتحكيم في غير معين مفوض للاجتهاد، فتتعذر المنازعةُ فيه، قال ابن دينار‏:‏ لو تنازعتما في شيء كل واحد منكما يظنُّه له، فسألتما رجلا فشهد به لأحدِكما جاز، ولا تشبه مسألة مالك؛ لأنك هاهنا حكمتما في غير معلوم، فهو كالتحكيم، ومسألة مالك إذا حكمت فيما تعلمه وتعتقد أنه شاركك في العلم، فإذا خالفك علمك لك الإنكار، وعن ابن القاسم‏:‏ عدم اللزوم في الوجهين؛ لأن الأصل‏:‏ أن لا يلزم الإنسان إلا شهادة العدل وعن مطرف‏:‏ له الرجوع ما لم يشهد، فإذا شهد فلا يلزمه، كان يعلم أو يظن مالم يكن على وجه التنكيت لصاحبه والتبرئة للشاهد من أن يقول ذلك، وهذا الاختلاف فيه؛ لأن المنزه غير محكم، وفي غيره الأقوال الثلاثة المتقدمة‏:‏ يلزمه، ولا يلزم التفرقة بين التحقيق والظن‏.‏ سواء كان الشاهد في هذا كله عدلاً أو مسخوطًا أو نصرانيًّا، وقيل‏:‏ لا يلزم الرضا بالنصراني بخلاف المسخوط لبعد الكفر عن درجة الشهادة، وإذا لم يظهر في المنازعة تنكيت من غيره فمحمول على غير التنكيت حتى يتبين منه التنكيت؛ لأنه ظاهر التحكيم، ولو قال المريض‏:‏ ما قاله فلان إنه على من الديون فهو مصدق، وذلك عبد أو مسخوط؛لا يلزم ذلك الورثة، قاله ابن القاسم، ولا يجري الخلاف المتقدم هاهنا لأنه حكم على الورثة فسقط، والصحيح حكم على نفسه بحدث الخلاف، مع أنَّ أصبغَ خالف، وقال‏:‏ يلزم الورثة ذلك كقول مالك، وصيتي عند فلان، فما خرج فيها فَأَنْفِذُوه‏:‏ ينفذ وإن كان غير عدل متى لم يكن متهما على الورثة، وخلافه ليس بصحيح، والفرق بين الوصية والديون‏:‏ أنَّها في الثلث، وهو له يوصي فيه، والديون من رأس المال، والوصية خُفف أمر الشهادة فيها حتى قبل الكافر في السفر بخلاف الديون‏.‏

فرع‏:‏

في النوادر‏:‏ قال مطرف‏:‏ إن قال‏:‏ كل من شهد لي فشهادتُه ساقطة عنك أو مبطل؛لا يلزمه حتى يسمى معيَّنًا أو معينين، فإن قال‏:‏ من قرية كذا؛لزمه، وقاله ابن القاسم‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ قال ابن كنانة‏:‏ إذا شهد على زيد فعزله عمرو فشهادته على عمرو مقبولة من غير زيادة تعديل؛لاعترافه بعدالته‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ قال عبد الملك‏:‏ إذا سأل الخصمان الحاكِم، أو من حكَّماه أن يحكم بينهما بشهادة مَن لا يَقبل شهادَتَه؛لا يفعل؛ لأنه قد يقتدى به وقد يعدل الشاهد بذلك، ويقال لهما‏:‏ ما علمناه من الشهادة اجعلا قرارا‏.‏

فرع‏:‏

قال‏:‏ متى قالا‏:‏ رضينا بشهادة فلانٍ وفلان بعد أن فسَّر الشاهدان الشهادة لزم الإقرار‏.‏

المسألة الحادية عشـرة‏:‏ قال صاحب البيـان‏:‏ قال مالك‏:‏ لا يقول الحاكم للمطلوب‏:‏ دُونَك فجَرِّح؛ لأنه يوهن الشهود، وخالفه ابن نافع؛ لأنه بذل الجهد‏,‏ وليست العدالة قطعية كوتم عداوة أو قرابة، وعلى قول مالك‏:‏ يقول له‏:‏ شهد عليك فلان وفلان، فإن كان عندك مدفع فادفع عن نفسك، وإلاَّ حكمت عليك، ويُعلمه بأن له التجريح إن كان يجهل ذلك‏,‏ فهذا لا خلاف فيه‏,‏ بخلاف‏:‏ دونك فَجَرِّح، فإنه إغراء‏.‏

المســألة الثانية عشرة‏:‏ قال‏:‏ قال مالك‏:‏ إذا زكى أحد الشاهدين صاحبه لا يثبت ذلك؛ لأنه حيي بواحد ثبت لا بشاهدين، قال‏:‏ ولو زكيا جميعا شاهدًا وشهد على شهادة شاهد آخر في ذلك الحق جاز، قال سحنون، قال ابن يونس‏:‏ قال سحنون‏:‏ إذا شهد بحق وجئت بآخرين شهد بمثل ذلك لك، وزكت كل طائفة لأخرى، تمت الشهادة والتزكية؛ لأن الشاهدين سألا لا محالة ولو شهد كل فريق بحق غير الحق الآخر لغيره، امتنعت التزكية؛ لأنه‏:‏ اشهَدْ لي وأشهَدُ لك، وكان يقول‏:‏ يجوز، قال ابن يونس‏:‏ والصواب‏:‏ منع الشهادة؛ لأنه إذا كان لا يجوز شهادتهم إلا بتزكية بعضهم لِبعض، فكيف يزكي من يحتاج إلى تزكية، وفي العتبية‏:‏ إذا شهد بحق فزكَّى أحدُهما صاحبه الحق مع المدلي؛ لأنه لم يثبت له إلا الذي زكَّاه صاحبه والأجنبي، ولو شهد الحقَّيْن وزكَّى أحدهما الآخر امتنع، ولو زكَّى الواحدُ رجلا آخر مع الشاهد الآخر، وزكَّى الشاهد الآخر ورجل آخر معه الشاهد الذي زكَّاه أولا، فشهادتُهما جائزة، ويحلف مع شاهده، قال عبد الملك‏:‏ إذا شهدا في حق، وعدَّلا رجلا شهد في ذلك الحق، جازت تزكيتهما؛ لأنه غير محتاج إليه؛ لأنَّهما عدلان، وإن شهدا على شهادة رجل وعدَّلا جاز، قال محمد‏:‏ وليس نقل الشهادة عنه بتعديل، قال أشهب‏:‏ ويجوز تعديل غيرهما له، وقاله سحنون، وفي العتبـية‏:‏ إذا شهد في حق وجرح من شهد ببطلان ذلك الحق، جاز، وإذا نقلا عن شاهد لا أحدهما الآخر، كما لا يعدل الشاهدين مَن شهد معه؛ لأنه يصير الحق بالمزكي وحده، قال ابن القاسم‏:‏ ولا شهادة في حق بعلمك، وتَنقل مع آخر عن آخر؛ لأن واحدًا أحيى الشهادة‏.‏

المسألة الثالثة عشـرة‏:‏ قال‏:‏ قال مالك‏:‏ يجب على مَن عَلِم عدالة شخص أن يزكيه؛ لأنه من جملة الحقوق، إلاَّ أن يجد غيره فهو في سعة، ورخص في ذلك ابن نافع إذا تعينت؛ لأن العدالة لا يقطع بها خلاف سائر الحقوق، قال‏:‏ وقول ابن القاسم أظهر؛ لأن مدرك العدالة الظن لتعَذُّر العلم، ويجب على المجرِّح أن يجرِّح إذا خاف إذا سكت أن يحق بشهادة المجروح باطلاً، أو يموت حقٌّ‏.‏

المسألة الرابعة عشرة‏:‏ قال مالك‏:‏ إذا سألت بعد إسجال الحكم القدح في البينة، جاز إذا رأى القاضي لذلك وجهًا، كقولك‏:‏ ما سكتُّ إلاَّ جهالة فأعلمني بِهم عدول، ونحو، وكذلك لك بعد عزل القاضي أو موته ذلك، ولو لم يكن ذلك للثاني؛ لأنه لا ينقض قضاء غيره، وقيل‏:‏ يمكنه كما يمكنه الأول، وقيل‏:‏ لا يمكنه الأول ولا الثاني؛ لأنه حكم وأنفذ وانبرم، فيحصل ثلاثة أقوال‏:‏ يمكنه ومن بعده؛لا هو ولا من بعده‏,‏ يُمكنه هو دون من بعده، وهذا في المطلوب، وفي الطالب رابع، قال عبد الملك‏:‏ إن عجز أول قيامه قبل أن يجب على المطلوب عمل، وبين أن لا يجب، وهذا الخلاف كله إنما هو إذا عجَّزه القاضي بإقراره على نفسه بالعجز، وأما إذا عجزه بعد التَّلوُّم والإعذار، وهو يدعي أن له حجة فلا يقبل منه بعد ذلك ما يأتي به من حجة لأن قوله قد ردمها نفوذ الحكام‏.‏

المسألة الخامسـة عشـرة، قال‏:‏ قال ابن القاسم‏:‏ إذا سألت القاضي أن يكتب لك ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ لتثبت العدالة عنده لا يلزمه أن يكتب لغيره في تعديل الشهـود، وعليك أن ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ شهودك حيث شهدت بل يستحب للقاضي أن يتخذ في النَّواحي مَن يَثقُ به يسأله عن الشهود‏.‏

المسألة السادسة عشرة‏:‏ قال‏:‏ قال سحنون‏:‏ تجوز الشهادة على الشهادة بالعدالة والجرح بأن يشهد على من يعلم ذلك من البينة، فتغيب الأصول وتحمل الفروع للحاكم فيقبلهم ‏[‏‏.‏‏.‏‏]‏ الغريب من أهل البادية؛ لأن البدوي لا يعدل الحضري، وقال عبد الملك ومطرف‏:‏ لا تجوز الشهادة على الشهادة في ذلك إلاَّ عند تعيين الشهادة، كما إذا شهد عند حاكم فطلب تعديله، والذي يعلم عدالته مريض عاجز عن الحضور، فيبعث إلى القاضي بما عنده من التعديل رجلين، ورجع سحنون عما قاله، وقول مطرف هو الصواب؛ لأن الشهادة على ذلك لو جازت لجازت شهادة غير العدول؛ لأن الناس قد تتغير أحوالهم بعد إشهادهم على عدالتهم، وكذلك قال سحنون‏:‏ إذا سمعت عدلين يقولان فلان عدل أو غير عدل، فشهد فلان عند الحاكم لا يجوز لك تعديله ولا تجريحه عند الحاكم بذلك السماع؛ لأنه شهادة على شهادة ولو لم تشهدك الأصول على شهادتِهما، وأما إن شاع سماعك من الشهود العدول وغيرهم أنه عدل أو غير عدل، جاز لك الشهادة بذلك، ولا تسمي من سمعت منهم اتفاقًا، وغير أنه قد قيل‏:‏ لا تجوز الشهادة على السماع بأقلِّ من أربعة شهود، وتجوز العدالة على العدالة إذا كان الشهود على الأصل غرباء، وإن كانوا من أهل البلد امتنع حتى يأتوا بتعديلهم أنفسهم، سواء كان معدِّلُ الغريب غريبًا أو من أهل البلد غير أنه إن كان المعدلون من أهل البلد فعدَّلهم أناس من أهل البلد فلم يعرفوا حتى يُجدد على أولئك تعديل، ولو كان المعدلون الأولون غرباء فلم يعرفوا معدِّلهم ناس من البلد فلم يعرفوا، جاز لهم أن يعدِّلهم غيرُهم، ولم يجز تعديلُهم عليهم، هذا نص ابن حبيب، قال‏:‏ وهو غلط، ولو كان المعدِّلون الأولون غرباء فعدًّلهم ناس من أهل البلد لم يعرفوا جاز لهم أن يعدِّلهم غيرُهم ثم لم يجز تعديلهم‏.‏

المسألة السابعة عشرة، قال‏:‏ قال سحنون‏:‏ إذا أشهدت اثنين ثم اثنين على حق واحد، جازت تزكية الآخرين الأولين، وكذلك في حقين؛ لأنهما لم يجرا لأنفسهما نفعا‏.‏

المسألة الثامنة عشرة‏:‏ قال‏:‏ قال سحنون لا تجرح من جَرَّح أخاك أو عمَّك العلى القدر؛ لأنك تدفع العيب عن نفسك، ولك ذلك في غيرها خير، ولك تعديل غيرهم، ولا يلحق ابن الأخ وابن العم بأبويهما، ولا يُشتم أحد بابن أخيه وابن عمه غالبًا، ولك تجريح من جرح أخاك بأنه عدوك؛ لأنه لا عار عليك في عداوة ولأخيك المشهود عليه، قال‏:‏ وقوله في العداوة صحيح على القول بأنه يعدِّل أخاه، وعلى القول بأنه لا يعدله فلان، قيل‏:‏ له ذلك، ولا خلاف أن له أن يعدِّل عمه، وإنما اختلف في تجريح مجرِّحِه‏.‏ وفسَّر ابن دَحون قول سحنون بأنك لا تجرِّح من جرَّح أخاك أو عمك‏:‏ تفسق بتفسيقه، بل بعداوة، وإن جرَّحهما بعداوة جاز لك تجريحه بالفسق والعداوة، قال‏:‏ وهو غير صحيح في المعنى فتدبره‏.‏

المسألة التاسعة عشرة، قال‏:‏ قال سحنون‏:‏ إذا علمت أنه شهد بحق وأنت تعلم أنه غير عدل؛لا يجوز لك تجريحه ليلا يضيع الحق‏.‏

المسألة العشرون‏:‏ قال ابن يونس‏:‏ قال سحنون‏:‏ إذا أعتقتما عبدين ‏[‏‏.‏‏.‏‏]‏ عند عتقهما أنَّ المورث أشهدهما أن فلانة حامل منه، وولدت، وأنتما ترثان بالتعصيب؛ لم تجز شهادتُهما؛ لأن تجويزها ‏[‏‏.‏‏.‏‏]‏ فتشهد أنك غصبتهما مائة دينار، جازت شهادتُهما في المائة لعدم ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ يجوز بعض الشهادة في بعض كما لو شهدت امرأتان ‏[‏‏.‏‏.‏‏]‏ لأن الشهادة لا تتبعض‏.‏

المسألة الحادية والعشرون‏:‏ قال‏:‏ قال عبد الملك‏:‏ إذا كتب القاضي شهادة َالشاهد‏,‏ ولم يحكم حتى قتل وقذف، أو قاتل من شهد عليه لم تبْطل شهادتُه لقبولها قبل الجرحة إلا أن يحدث ما يسره الناس من الزنا والسرقة فتبطل؛ لأنه مما ظهر أنه فعله فيها، ولو حكم بهم في حد ولم يُقمه حتى فسقوا نفذ الحكم لوقوعه على الوضع الصحيح، وإن لم يحكم‏:‏ قال أشهب‏:‏ بطلت كالرجوع قبل الحكم أو بعده، قال أصبغ‏:‏ أما في حق العباد فكذلك، وأما الحد الذي لله وحده فلا ينفذ، ولو شهد لامرأة ثم تزوجها‏:‏ قال أصبغ‏:‏ صحت شهادتُه بخلاف من أوصى لغير وارث فصار وارثًا، والفرق‏:‏ أن الشهادة حدثت التهمة فيها بعد أدائها، والوصية إنما ينظر فيها يوم تجب بعد الموت فلم تجب حتى صار وارثًا فترد، وفي النوادر قال أشهب‏:‏ إذا حدثت الكبيرة قبل التعديل أو بعده وقبل الحكم، بطلت الشهادة، بخلاف بعد الحكم، قال عبد الملك‏:‏ ولو أشهد على شهادته عليك أو سمعت منه ثم عاداك، قبلت شهادته بعد العداوة كما لو أدَّاها قبل العداوة‏.‏

المسألة الثانية والعشرون‏:‏ في النــوادر‏:‏ إذا زكيت البينة فعورضت بينته، قيل‏:‏ إنَّها معروفة العدالة في موضعها‏.‏ إن كان في موضعها من يكتب إليه القاضي سأله عنها فعل إن كان من عمله وإلاَّ تركهم، ولا يقضي في تلك القضية، فلعلهم عدول، وأنت تسأل عمَّا فعلت لا عمَّا تركت، قال أصبغ‏:‏ ذلك حسن إذا كان في رفع فيستأني به، فإن كان الكشف ولم يعدلوا‏:‏ حكم بالمعدلين ولا يستأني في غير الرفع، ويقضي بالمعدلين بعد تلوُّم يسيرًّا، وقاله ابن القاسم، ومتى عجز عن تعديل البينة وهي من الكورة‏,‏ كتب قاضي الحضرة إلى قاضي بلدها يعدِّل عنده فيكتب له بِمَا ثبََتَ عنده أن وَثِقَ بقاضي الكور وباحتياطه وإلاَّ كتب إلى رجال صالحين هنالك يسألهم عنهم، ويكتفي برسوله في ذلك الذي يأتيه بالكتاب إن كان مأموناَ، وإن كان الخصم الرسول فلا تَقبل منه إلا شاهدين على كتاب القاضي أو الأمناء، وقاله سحنون، وإن أراد الخصم تزكية الشاهد قبل أن يشهد لم يلزَم القاضي ذلك‏.‏

المسألة الثالثة والعشرون، قال صاحب المنتقــى‏:‏ قال عبد الملك ومطرف‏:‏ تجوز شهادة مَن يتوسم فيه الحرية والإسلام والمروءة والعدل فيما يقع بين المسافرين بما جرت به عـادة السفر، بخلاف العقـار والأموال العظيمة والحـدود؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏واسْأَلِ الْقَرْيًةَ الَّتِي كنَّا فيها والعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا‏)‏ ولا يمكن المشهود عليه من التجريح؛ لأنهم أخبروا على غير العدالة فلا يُجَرَّحُوا كالصبيان، فإن أرتاب الحاكم قبل الحكم بقطع يد أو جلد، يوقف في المتوسم حتى تزول الريبة فيحكم، وإن ذهبت الريبة أَسْقَطَهم، وإن قيل له‏:‏ هم عبيد ومسخوطون قبل الحكم كشف، فإن ظهر ذلك أمسك عن إمضاء الحكم، وإلاَّ حكم بِها، وإن كان قبل ذلك نفذ الحكم فلا يرد الحكم شيئًا من ذلك إلاَّ يشهد عدْلان أنَّهما أو أحدهما على صفة تمنع الشهادة‏.‏